إرتدت معطفها أخيرًا.. أغلقت أزراره جيدًا قبل أن تتناول أخر رشفة من فنجان قهوتها..
كانت قد إعتادت أن تتناول فنجان قهوة كلما أرادت أن تخرج من المنزل، وإعتادت كذلك أن توزع رشفاته بين طقوس إستعداداتها للخروج.
فرشفة قبل إرتداء الملابس، وأخرى قبل وضع الكريم الواقي من الشمس، ثم رشفة عندما تبدأ بوضع غطاء رأسها، وربما تناولت وقتها أكثر من رشفة لأن تلك الطريقة التي إتبعتها أخيرا لتثبيت غطائها ما زالت تستغرق من وقتها دقائق إضافية، وكانت تتأمل أن تعتادها في وقت قريب فتختصر بعض الوقت..
نصف ساعة كانت وقتا قياسيا لتكون مستعدة ولكنها كانت تبدو أكثر سرعة عندما تكون قد قررت مسبقا ما الذي سترتديه ووفرت على نفسها رحلة شاقة من التبديل والتجربة.
وضعت أخيرا مبلغ المال الكبير في حقيبتها وهي تبتسم لصورة ذلك الحذاء الأزرق ذي الكعب الروكي العالي، وهي تداعب خيالها وتحديدا إلى ما يشبهه تماما تلبسه تلك الأميرة التي أحبت مظهرها البسيط وراقتها أناقتها وإطلالتها غير المتكلفة دوما.
كانت على إستعداد للتضحية بالمبلغ الكبير الذي تحمله من أجل أن تحصل على تلك الإطلالة والأناقة التي يمنحها حذاء مثالي أنيق لمن ترتديه، وبخاصة أنه جمع ما بين الأناقة والراحة، وأنه أداة جيدة للإستثمار بسبب شكله الأنيق الذي يصلح لارتدائه مع الملابس الرسمية أو التنورة، ولأنه المريح الذي يسهل إرتداؤه في العمل كذلك.
بدا لها رائعا في تصميمه وشكله وهي تراه على صفحة المحل الرسمية على الفيس بوك.. ولم يكن من الممكن مقاومته أو تجاهله بالنسبة لها، فقد كان ساحرا في تصميمه ولونه وخامته ويتناسب مع الكثير من موجودات خزانتها.. وكانت على ثقة بأن من يراه سيقر حتماً بأنه يستحق هذا السعر، وأنه يضفي على من ترتديه لمسة مثالية رائعة، فكل أنيقة تعرف أن حذاءًا بتصميم لافت وتفاصيل متميزة هو شهادة لها بأنها خبيرة في الموضة.
بدت كالمسحورة به وبدا وكأنه متآمر عليها فلم يعطها فرصة لتغير رأيها أو لتستعيد توازنها.. وقد كانت تعرف تماما أن ذلك الكعب يليق بها عندما تسير بثقة وهي ترتديه مشدودة القوام مستقيمة الظهر فليس هناك أسوء من امرأة لا تتقن فن المشي كما كانت تقول وهي تتدرب على إرتداء ما يشبه في إرتفاعه ذلك الحذاء.
تركت فنجان قهوتها الفارغ قرب الحوض وغادرت وهي تحمل حقيبتها وحمالة المفاتيح التي تتدلى منها اكسسوارات كثيرة كانت عبارة عن هدايا وذكريات من صاحباتها، وكانت تعتز بحجمها ووزنها وتختار لها كل حين إضافة أخرى.
في الطريق تلمست حقيبتها أكثر من مرة سعادة وإبتسامتها لم تفارق وجهها وهي ترى حلما من أحلامها الوردية يتحقق وكانت دون أن تفكر تسير بسرعة المشتاق.
خففت من سرعتها لتنظر بألم نحو ذلك الطفل الجالس أمام محل لبيع الدجاج بأنواعه الشهية وهو يحمل صندوق تنظيف الأحذية ويلمع حذاء أحد زبائن المحل وعينه ترنو بشوق نحو منبع الرائحة.. إعتقدت وهي تنظر بحزن نحو وجهه المترب أن عينه كانت دامعة وتألمت بشدة وهي تحاول أن تستشعر آلام بطنه الفارغة وهي تغازل رائحة الدجاج المقلي التي بالكاد يقاومها من أكل لتوه فضلاً عن طفل بهيئته الفقيرة تلك، وقالت لنفسها: في طريق العودة سأكون بجانبه وسأشتري له طبقا من الدجاج المقلي وعلبة من العصير..
إبتسمت لفكرتها وأكملت طريقها وهي تتخيل فرحة الصبي عندما ستقدم له طبقها الشهي، ثم أسرعت لتشتري حلمها ثم تعود بالمبلغ المتبقي نحو الصغير الجائع فقد كانت تخشى من نقصان المبلغ فيما لو بدأت بالدجاج أولا.
عادت لتبتسم وهي تكمل طريقها وتملأ رئتيها بهواء عليل داعب وجنتها عندما لمحت شرطيا يجر مراهقا ما زال يقاوم وبائع أمام محله يدعو عليه لأنه سرق من محله علبة من الجبن كان يلوح بها ويتوعد ذلك السارق الصغير الجائع أيضاً.. كان وجهها يراقب الفتى عندما إصطدمت بتلك البائعة التي تحمل رضيعها وبعض الحشائش وإعتذرت لها مرتيتن بكل أدب.. مرة لأنها صدمتها دون أن تقصد، ومرة أخرى لأنها لا تستطيع أن تشتري منها ما عرضته عليها، ثم إبتعدت مسرعة وهي تحاول جاهدة أن تنسى نظرة الألم في عين تلك المرأة وذلك المراهق والطفل الجائع قبلهما عندما بدا لها عجوز يتوسد قطعة من الكرتون وهو يرتدي ملابس متسخة وقد بدت أصابع قدميه من حذائه المقطوع.
أسرعت تجتاز الشارع العريض لتقترب من محلها المفضل، جلست على مقعد وثير فيه قد جعله أمام مرآة كبيرة بإطار خشبي محفور ومذهب لتجرب حذاءها الجديد، سارت به خطوات عديدة أمام المرآة وتحت تلك الأضواء البيضاء الخلابة، وبدت لنفسها وكأنها غادة من غادات المنصة الهوليودية تخطر مثلهن لتتلقى جائزة من جوائز تلك المنصة.
بعد برهة عادت نحو الشارع بحقيبة من القماش تضم علبة الحذاء الجديد ومبلغا من المال كانت تفكر في طريقة لتقسيمه بين الرجل.. والمرأة.. والطفل الجائع.. عندما لمحت سيارة صديقتها تتوقف لتلوح لها وتدعوها للصعود وتقدم لها خدمة التوصيل المجاني وبعض الثرثرة الممتعة.
إبتسمت لها وهي ترفع نظارتها الشمسية عن عينيها وركبت بجانبها بسرور وإمتنان لأن أحداً شعر بتعبها ولأن صديقة وفية رحمتها من السير مجددا تحت الشمس الحارقة.
الكاتب: عبير النحاس.
المصدر: موقع رسالة المرأة.